الله.. والنفس البشريّة

إنّ الإنسان يتصل بالعالم الخارجي بواسطة الفطرة.. نحسّ بها ولكننا لا نفهمها.. فنحن حين نحب ونكره.. مهما حاولنا تفسير ذلك الإحساس لا نستطيع أن نصل إلى حقيقته.. وعندما نولد تبدأ الفطرة عملها.. قبل الحواس.
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في حديثه: إنّ الإنسان في صلته بالعالم الخارجي يتمتع بما نُسمِّيه الحاسّة.. أو الحواس.. فأنت ككائن بشري حين تتصل بالعالم الذي يحيط بك.. فإنّك تتصل به عن طريق حواس حددت بخمس، هي: أن يسمع الإنسان ويرى ويشم ويلمس ويتذوّق.
. هذه الحواس نفهم بواسطتها العالم الخارجي ونميز بواسطتها هذا العالم، بل ونعطيه صفاته التي نطلقها عليه.. فصفات الألوان مثلاً نميزها بحاسة البصر.. ونوع الطعام مثلاً نعطيه لفظ الحلو.. ولفظ المر.. ولفظ الجيِّد.. ولفظ الرديء.. بحاسة التذوق إلى آخر هذا الكلام.
إذن، فنحن نتصل بالعالم الموجود خارجنا عن طريق هذه الحواس.. ولكن ماذا عن عالم ما هو داخل النفس البشرية؟ وكيف يمكن أن يتم الاتصال بين الإنسان وما هو موجود في داخله؟ هل يتم هذا الاتصال عن طريق الحواس؟ أو عن طريق أشياء أخرى يطلق عليها بعض الناس البديهيات؟ وبعض الناس لفظ إلهام خاص؟ وبعض الناس ألفاظ أخرى؟ ولكن المؤكد أن هذا الإحساس الذي يتم بالنسبة لما في داخل النفس البشرية لا يتم عن طريق الحواس الخمس التي تتصل بها بالعالم الخارجي.. وإنما يتم عن طريق أشياء أخرى يطلق عليها كما قلت إلهام أو إحساس داخلي إلى آخر هذا.
ولنشرح الموضوع بشيء من التفصيل، نبدأ أولاً بالأشياء التي يصل إليها الإنسان عن طريق حواسه التي توصله بالعالم الخارجي.. فهو يرى ألواناً مختلفة.. ويسمع أصواتاً مختلفة.. ويلمس أشياء مختلفة.. ويتذوّق طعاماً مختلفاً.. ويشم روائح مختلفة.. هذا هو اتصال الإنسان بالعالم الخارجي.. أما اتصاله بما في داخله، فيأتي مثلاً عن طريق شعوره بالجوع.. إننا لا نرى الجوع.. ولا نلمسه.. ولا نشمه.. ولا نتذوّقه.. ولكننا نشعر به.. وما ينطبق على الجوع.. ينطبق على الأشياء الأخرى.. مثل الحب والكره.. مثلاً الإنسان يحب شخصاً ما.. يكره شخصاً ما.. أو شيئاً ما.. دون أن يكون لذلك سبب حسّي معروف.
إذن، فهناك أشياء في داخلنا.. تسمح لنا بأن نشعر شعوراً معيناً.. هذا الشعور نحس به ونعرفه تماماً.. ولكننا لا نراه بحواسنا.. إنّ الإنسان مهما قال في شرح أسباب الحب والكراهية لا يستطيع أن يصل إلى الحاسة التي تسبب الحب.. أو التي تسبب الكراهية.. فهذه الحاسة لا تدخل ضمن الحواس الخمس.. التي يتصل بها الإنسان بالعالم الخارجي.. أو التي تحدد علاقة الإنسان بالعالم المادي.. ومن هنا، فإنّ العلماء حريصون حينما يتحدثون عن الحواس أن يقولوا أن هذه الحواس هي التي توصل الإنسان بالعالم الخارجي.. وإنّ الإنسان له ملكات وغرائز وشعور وإلهام.. وأشياء أخرى في داخله توصله بداخل النفس البشرية.. وتؤثر في هذه النفس.
والذي لا يخضع للمنطق، أن نحاول أن ننكر أن في داخل الإنسان أشياء كثيرة غير الحواس التي توصله بالعالم الخارجي.. وإنّ الإنسان يستطيع أن يتصل بالعالم.. بينما ما بداخله يترك بلا اتصال أو إحساس معيّن، بل الحقيقة أنّ الإلهام أو الشعور والإحساس بما في داخل النفس البشرية، يوجد قبل إحساس هذه النفس بما حولها من العالم.. تلك سنّة الخلق.. فالطفل الصغير مثلاً يحس بالجوع والعطش.. ويُعبِّر عنهما بالبكاء قبل أن يستطيع أن يستخدم حواسه في الاتصال بالعالم الخارجي.. وهو يحس بالحنان والدفء.. والحب والكره.. والقسوة.. والرحمة.. كل هذه الأشياء توجد في داخل نفسه مع دقات الحياة الأولى.. بينما الحواس قد تنتظر أسابيع أو شهوراً قبل أن تستطيع أن تؤدي مهمّتها بشكل يمكن أن يعبر عنه.
وإذا درسنا هذه الحواس الداخلية، نجد أن أقواها هو إحساس الإنسان بوجود الله.. هذا الإحساس الذي قد يفتقر إلى شيء من الدقة بالنسبة لعظمة الله وقدرته.. والكون.. ووجوده.. وكل شيء من هذا النوع.. ولكن هذا الإحساس يؤكد وجود قوة داخل الإنسان تدفعه إلى أن يشعر ويحس بوجود الخالق سبحانه وتعالى.
أحاسيس النفس:
ولكي أوضح هذه النقطة، أحب أن أقول إنّ النفس البشرية التي فيها أحاسيس لا نستطيع أن نحللها بدقة.. ولا أن نصل إليها لنعرف ما هي.. تحس أيضاً هذه النفس إحساساً يقينياً بوجود الله سبحانه وتعالى.. فاسم الله مثلاً هو شيء لا تدركه الحواس الخمس.. لأنه أكبر من قدرتها.. ولكن تدركه حاسة داخل الإنسان.. حاسة غير مرئية.. ومن هنا، فإن كلمة الله التي هي فوق قدرة الحواس الخمس.. نجد أنّ الأذن تفهمها عندما تسمعها.. ولا يمكن للأذن أن تفهم شيئاً لا يوجد أصلاً داخل النفس البشرية.. بحيث يكون التصور هنا ليس غريباً تماماً.. على هذه النفس، بل هو معروف لها بشكل قد لا نفهمه نحن.. ولا نستطيع أن نحلله.. ولكنه معروف.. فعندما يذكر لنا أحد اسم الله، فإنّ الذي يقفز إلى عقولنا هو وجود قوة خارقة.. هي التي أوجدت هذا العالم.. وإن هذه القوة خارج نطاق العقل، بل وخارج نطاق الحواس.. إذن كيف ندرك وجود هذه القوة؟ وكيف يكون اسمها مألوفاً عندنا وهي خارج نطاق الحواس وخارج نطاق العقل؟

هنا يأتي ما في داخل النفس.. وهو الإلهام.. أو الشعور.. ليقول لنا أن هذه القوة رغم أنها فوق مستوى العقل والحواس، فإنها موجودة داخل النفس.. والنفس تفهم وتحس بوجودها.
وفي العصر القديم، بدأ الفلاسفة.. خصوصاً فلاسفة اليونان.. يبحثون عما وراء المادة.. عما وراء هذا العالم المادي.. عن الخلق.. وعن القوة التي أوجدت هذا العالم.. إلى آخر فلسفة اليونان القديمة.. عن ما وراء المادة.. مَن الذي قال لهم إن هناك شيئاً وراء العالم المادي.. يجب أن يدرس كيف عرفوا أن هناك شيئاً خلاف المادة.. مع أنّ الحواس الخمس لا تقول لنا شيئاً عن المادة.. ونحن هنا لا نناقش فلسفة اليونان.. وسواء نجحت هذه الفلسفة أو غيرها.. أو فشلت.. موضوع لا يهمنا هنا.. وإنما الأمر الذي يهمنا أنهم كانوا مدفوعين لينظروا إلى ما وراء الطبيعة.. وانه كانت لديهم أشياء داخل أنفسهم.. ليست أشياء حواسية.. أي لا تخضع للحواس ليفعلوا ذلك، بل إنّ الإنسان منذ فجر التاريخ.. منذ بداية خلقه.. وهو يبحث عما وراء المادة.. يبحث عنها بطرقه المختلفة.. وهو أحياناً يتخذ سبيلاً أو آخر لإظهار خضوعه أو عبوديته لهذه القوة التي هي وراء المادة، ولكن المهم في هذا كله.. أن هناك شعوراً داخلياً في النفس البشرية.. يقول لها أن هناك شيئاً وراء الطبيعة.. إنّ هناك قوة ما وراء هذا العالم.. وأن هذه القوة.. هي قوة عظيمة وخارقة.. هناك شعور داخلي في كل نفس بشرية لوجود الله.. تلك القوة التي هي وراء هذا الكون.. هناك شيء داخل النفس البشرية يجعلها تدرك أو تفهم أنّ العالم المادي الذي يرونه لا يمكن أن تكون وراءه قوة خارقة قادرة منظمة قوية.
العالم والمادة:
ولكن هذا العالم المادي نفسه الذي نعيش فيه.. لا يمكن أن يخلق فينا هذا الشعور.. لا يمكن أن يقول لنا إذا استخدمنا حواسنا فقط أن هناك قوة قادرة قاهرة خلف كل هذا.. إذن لابدّ أنّ هناك قوة أخرى خلاف هذا العالم المادي هي التي وضعت فينا هذا التصور.. وهو أنّ هناك شيئاً خلاف المادة يجب أن يتم البحث عنه.. ومن هنا بدأ البحث والفكر والاتجاه نحو هذه القوة.. ولو لم يكن هناك شعور في داخلنا.. وإحساس قوي بوجود هذه القوة لما بحثنا.. ولما وجد كل هذا البحث عبر تاريخ البشرية.

على أن هناك ملاحظة أخرى أحب أن أسجلها.. هي أنّ الإنسان حين يصل إلى مرحلة التفكير في وجود الله.. أو المرحلة التي يعقل فيها أن هناك قوة خارقة وراء هذا الكون.. لابدّ أن تكون قد مرّت فترة من عمره.. فالإنسان عادة لا يبدأ في التفكير في مثل هذه الأمور.. والتحدث عنها بعمق دون أن يكون قد تجاوز سن العشرين أو الثلاثين على الأقل.. ليكون لديه نضج العقل الكافي لمناقشة أمر عميق كهذا.. والسؤال الذي يجب أن يطرح هنا هو بأي منطق عبد هؤلاء الناس الله.. قبل الوصول إلى هذه السن؟ وكيف تفهموا كل هذه الفلسفة التي تحتاج إلى عقل ناضج.. وإلى علم ودراسة وتأمل.. حتى يستطيعوا أن يصلوا إلى أن هناك شيئاً وراء المادة؟ ولكننا نجد العقول البسيطة التي لم تقرأ كتاباً واحداً.. تعرف أنّ الله موجود.. وتعبده بفهم.. ونجد أولئك الذين لم يناقشوا هذا الموضوع على الإطلاق.. يعرفون وجود الله.. ويقومون بعبادته، بل إن أكثرهم يحس بانسجام فطري غريب بأنّ الله سبحانه وتعالى.. ووجود الكون شيئان لابدّ منهما.. وإنّ وجودهما حقيقة داخل النفس.
إنّ هذا الشيء نفسه.. هذا الذي يوجد داخل النفس البشرية ليؤكد أن هناك شيئاً وراء المادة.. وأن هناك قوة كبرى وراء هذا الكون.. دون أن تكون قد وصلت إلى سن النضج والدراسة والفلسفة التي تؤهلها لمناقشة هذا الموضوع.. هذا في نفسه دليل على وجود الله سبحانه وتعالى.. فلقد عبدوه عن إيمان خلق في قلوبهم.. منذ اللحظة التي يولدون فيها وانطلاقاً من هذا الإيمان عندما نضجوا.. قادوا عقولهم إلى التفكير.. وسواء سارت العقول في الطريق السليم.. أو ضلت الطريق.. فالإيمان بالله.. والبحث عنه.. ووجود شيء فوق العالم المادي موجود في النفس البشرية.. بالفطرة وليس بالعلم.. ولو وجد بالعلم كان لابدّ أن يبدأ عندما يبلغ الإنسان سن النضج في التفكير.. ولو كان موجوداً بالعلم لعندما وصل العلم إلى مرتبة العجز.. عجز العقل البشري عن الوصول إلى صفات الله وقدراته.. لتركت هذه القضية على أساس أنها فوق قدرة العقل.. ولكن بالرغم من أنها فوق قدرة العقل.. فهي قضية مثارة.. وأجهد الناس أنفسهم فيها.. كل واحد يحاول أن يصل إلى وجهة نظره حول هذا الموضوع.
ومعنى هذا الجدل كله الذي يمضي ولن ينتهي.. ومعنى البحث عن أدلة عن القوة الموجودة وراء العالم المادي.. معناها أننا نعرف وجود الله بالفطرة.. وأنه يوجد داخل أنفسنا ما يؤكد أنّ الله موجود.. وإلا لما أنهكت النفس البشرية قواها في هذا الجدل.. ولكان العقل البشري يعيش مطمئناً وسعيداً بالعالم المادي.. الذي خلق فيه.. ولا يحاول أن يصل إلى أكثر من ذلك.
المصدر: موقع الموسوعة الإسلامية
-->

0 تعليقات